بلال بن رباح.. مؤذن الرسول
بلال ينتقم من تعذيب أمية بن خلف له وينجح في قتله
مأمون غريب
وكانت غزوة بدر الكبري نقطة تحول هائلة في تاريخ الدعوة الاسلامية، فقد تحقق فيها النصر علي أعداء الاسلام من كفار مكة، وفيها تخلص المسلمون من قادة الكفر الذين طالما كادوا للاسلام والمسلمين، والذين طالما عذبوا الضعفاء منهم.. فقد قتل في هذه المعركة أبوجهل وأمية بن خلف، واستطاع فيها بلال أن يأخذ بثأره من أمية بن خلف الذي طالما عذبه علي رمال مكة المحرقة.
بعد أن استقر المسلمون في المدينة، ونزلت آيات الجهاد.. كان معني ذلك أن يواجه المسلمون الأعداء، وأن يردوا لهم الصاع صاعين، ولم يعد أمامهم بعد تلقي العذاب والتعذيب دون الرد علي من يقومون بتعذيبهم كما حدث لهم عند بدء الدعوة في مكة، بل كان عليهم أن يجاهدوا في سبيل نشر الدعوة، وأن يأخذوا حقهم الذي سلبه منهم أهل مكة ظلما وافتراء.. لقد سمع المسلمون بعد ثمانية عشر شهرا من هجرتهم أن هناك قافلة لقريش تتحرك من الشام تحمل تجارة لهم.. ويحرسها أبوسفيان بن حرب ومعه أربعون رجلا، ورأي النبي أن يتعرض لهذه القافلة لاسترداد ما نهبه القرشيون من المسلمين، ولكن هذه القافلة أفلتت من المسلمين واتجهت إلي الشام، وفي طريق العودة من الشام أرسل النبي عليه الصلاة والسلام من يترقب هذه العودة والتصدي لها عندما تمر بالقرب من المدينة، ولكن أبوسفيان علم بتحرك المسلمين نحو القافلة، فأرسل إلي مكة رجلا يدعي (ضمضم).. الذي أسرع إلي قريش يخبرها بأن قافلتهم في خطر، وأن المسلمين سوف يتعرضون لها، وأسرعت قريش تدبر أمرها، وقررت أن تنهض لمحاربة المسلمين، وجمعت تسعمائة وخمسين رجلا، تحملهم سبعمائة بعير، ومائة فرس!
وظنوا أنهم سوف يهزمون المسلمين لكثرة عددهم بالنسبة لمن سيقابلهم من المسلمين، واتجهوا نحو بئر بدر.. وعلم الرسول بتحرك قريش، فجمع أصحابه من الأنصار والمهاجرين وقال لهم: أيها الناس. إن الله قد وعدني احدي الطائفتين أنها لكم، العير أو النفير.
وقال له المقداد بن عمرو من المهاجرين!
يارسول الله، انهض لما أراك الله، فنحن معك، والله لانقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسي:
اذهب أنت وربك فقاتلا انا ها هنا قاعدون«.
ولكن نقول: أذهب أنت وربك فقاتلا إننا معكما مقاتلون. والله الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلي (برك الغماد).
[وهو مكان كان يضرب العرب به المثل لبعده] لجالدنا معك من دونه حتي تبلغه«.
وقال له سعد بن معاذ من الأنصار
والله لكأنك تريدنا يارسول الله قال الرسول: أجل
قال سعد:
إنك عسي أن تكون خرجت لأمر أحدث الله غيره فانظر الذي أحدث الله فامض له.
فإننا قد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك عهودنا علي السمع والطاعة.
ولعلك يارسول الله نخشي ألا تكون الانصار تري عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم. وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاطعن يارسول الله حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت وخذ من أموالنا ماشئت، وما أخذت من أموالنا أحب إلينا مما تركت، وما أمرت من أمر، فأمرنا تبع لأمرك.. فامض يارسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الله الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.. ما تخلف منا رجل واحد.
وما نكره أن تلقي بنا العدو غدا.. إننا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقره عينك.. فسر علي بركة الله فأشرق وجه النبي عليه الصلاة والسلام وقال لأصحابه.
: أبشروا أيها الناس، والله لكأني أنظر إلي مصارع القوم«.
> > >
واستطاع سفيان بن حرب أن ينجو بالقافلة باتجاهه نحو ساحل البحر، وأرسل إلي قريش يخبرها بأنه نجح في العودة بالقافلة سالما.. وطلب منهم العودة إلي مكة، ولكن قريشا كان قد أخذ منها الصلف والكبرياء والغرور ما جعلهم يصرون علي محاربة المسلمين، بل أن أبا جهل قال:
والله لانرجع حتي نأتي بدرا، ونشرب خمرا، ونسمع القيان، ونطعم الطعام، وتسمع العرب بذلك، فلا تزال تهابنا أبدا..!!
إنها الحرب إذن..
هذه الحرب التي اندلعت بين المسلمين والكفار في يوم الجمعة السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.
واختار المسلمون مكان المعركة..
وأقاموا عريشا للرسول عليه الصلاة والسلام ودعا الرسول عليه الصلاة والسلام ربه:
: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك، وتكذب رسولك.
اللهم فنصرك الذي وعدتني.. اللهم اهلكهم هذه الغداة«.
وتحتدم المعركة.. ويدعو الرسول الكريم:
: اللهم إني أنشدك عهدك ودعوك..
اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لاتعبد
اللهم نصرك الذي وعدتني
اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم«
وقتل في هذه المعركة أبوجهل.. بعد أن راقبه معاذ بن عمرو، وضربه بسيفه، وطعنه فتي أخر من الأنصار بالرمح فسقط من فوق حصانه.. ومر به عبدالله بن مسعود فعرفه وقال له:
أهذا أنت ياعدو الله لاتزال فيك بقية من الحياة.
وداس بقدمه علي عنقه
فقال له أبوجهل:
لقد ارتقيت مرتقي وعرا يارويعي الغنم فقال عبدالله بن مسعود:
انظر يا عدو الله ما يصنع بك راعي الغنم وظل يضغط بقدمه علي عنقه حتي مات.
> > >
كان بلال يقاتل قتالا شديدا في المعركة، وكانت عينه تبحث عن هذا الذي عذبه أشد العذاب علي رمال مكة المحرقة.. كان يبحث عن (أمية بن خلف).. ورآه يحاول الهرب مع ابنه علي، فأسرع إليه بلال وقال:
رأس الكفر أمية بن خلف.. لانجوت ان نجا.
وحاول أمية أن يلوذ بعبدالرحمن بن عوف، وأن يصبح أسيرا له، وينجو من القتل بيد بلال بن رباح.
وكأن بلال في هذه اللحظات يتذكر ما فعله به هذا الطاغية، فلم يرحمه وهو يتلظي بحميم الرمال المحرقة، أو هو يحض الأطفال علي سحبه من عنقه، أو جره فوق الرمال.. أو وضع الحجارة علي جسده.. فإذا به يقول لعدو الله.
لانجوت إن نجا
أستمع يا ابن السوداء.. إنهما أسيراي!
رفع بلال صوته ينادي أصحاب رسول الله
يا أنصار الرسول.. هذا رأس الكفر أمية بن خلف وولده.. لانجوت إن نجوا؟
وساعده الأنصار، عندما ضربوا بالسيوف الأسيرين، حتي لفظا أنفاسهما الأخيرة!
> > >
وهكذا انتصرت القلة المسلمة علي الكثرة الكافرة لم يكن عدد المسلمين سوي ٤١٣ مقاتلا بينما كان عدد مشركي مكة يقترب من الألف.. وكان عدد قتلي المشركين ٠٧ قتيلا، بينما كان شهداء المسلمين أربعة عشر شهيدا. وسقط في هذه المعركة أبوجهل، الذي أجهز عليه عبدالله بن مسعود، وقتل
أمية بن خلف علي يد بلال. وهلك أربعة وعشرون من سادة مكة، وأسر منهم سبعون آخرون!
كان الجو شديد الحرارة، فأمر الرسول بحفر حفرة عميقة (قليب).. وأمر بأن يدفن فيها القتلي.
وسمع بلال بن رباح، كما سمع صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام ما قاله عليه الصلاة والسلام لهؤلاء الذين ضمهم هذا القليب«.
: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم.
كذبتموني وصدقني الناس.
وأخرجتموني وأواني الناس.
وقاتلتموني ونصفوني الناس.
هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.
قال المسلمون:
يارسول الله، أتنادي قوما جيفوا؟
قال النبي عليه الصلاة والسلام:
لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق«.
وقد بعث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام وزيد بن حارثة من المهاجرين، وعبدالله بن رواحة من الأنصار إلي المدينة ليبشرا أهل المدينة بهذا النصر الحاسم علي المشركين.. ووصلوا المدينة، وأهلها يشيعون (رقية) ابنة الرسول الكريم وزوجة عثمان بن عفان إلي قبرها.
> > >
وهكذا أصبحت غزوة بدر نقطة تحول خطيرة في تاريخ الدعوة الاسلامية، وأصبحت دولة الاسلام في المدينة هي القوة التي يعمل لها ألف حساب.. فقد انتصرت هذه الدولة الوليدة علي قريش بصلفها وكبريائها، حتي أن (أبا لهب) عندما سمع بانتصار المسلمين مرض، ومات بعد أسبوع حزنا وكمدا.
وكان أشد الناس غيظا في مكة أبوسفيان بن حرب الذي هاله ما سمع عن هذه الهزيمة الساحقة التي لحقت بمكة، كذلك زوجته هند بنت عتيبة فقد قتل في هذه المعركة أباها (عتبة) وأخاها (الوليد) وعمها (شيبج) وأسر والدها (حنظله).
كما أن اليهود في المدينة قد غاظهم هذا الانتصار الباهر، وأكل الحسد قلوبهم، كما أكل الحسد قلوب المنافقين في المدينة وعلي رأسهم »عبدالله بن أبي بن سلول«.
> > >
أما عن الغنائم فقد نزل قوله تعالي فيها:
وكان نصيب النبي من هذه الغنائم الخمس، وحمله بلال رضي الله عنه، ووزع الباقي علي المحاربين.
> > >
لقد كانت سعادة بلال بن رباح بلا حدود في غزوة بدر، فإن الشعار الذي كان يردده أثناء عذابه في مكة، أصبح شعار المسلمين في جهادهم العظيم في هذا اليوم المجيد من أيام الأسلام.. أحد.. أحد).
.. إنه في هذا اليوم استطاع أن يأخذ بثأره من أمية بن خلف.. وقد عبر عن موقفه هذا في لوحة أدبية رائعة مفكرنا خالد محمد خالد وهو يتحدث عن »بلال«:
:.. ولكن الله بالغ أمره، فليخرج (أمية) فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديان لايموت، وكما تدينون تدانون!
إن القدر ليحلو أن يسخر بالجبارين، (فعقبه) الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع إلي هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذي سيقود أمية إلي مصرعه.
وبيد من؟
بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
نفس اليد التي طوقها بالسلاسل أمية، وأوجع صاحبها ضربا وعذابا.. هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة (بدر) علي موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا.
ولقد حدث هذا تماما.
وحين بدأ القتال بين الفريقين، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم (أحد.. أحد) انخلع قلب أمية، وجاء النذير.
ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبده تحت وقع العذاب والهول، قد صارت اليوم شعار دين بأسره، وشعار الأمة الجديدة كلها.
»أحد.. أحد«!!
أهكذا؟ وبهذه السرعة.. وهذا التحول العظيم
ويقول مفكرنا الكبير بعد أن يتحدث عن الأحداث التي انتهت بقتل أمية بن خلف:
: لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدي بلال في مثل هذا المقام....
فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تم في ظروف أخري، لجاز لنا أن نسأل بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به..
لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه..
السيوف تتوهج والقتل يسقطون، والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنمله إلا ويحمل أثار تعذيبه.
وأين يبصره وكيف؟
يبصره في ساحة الحرب والقتال، ويحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوح به. في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لايكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل؟؟!
موضوع: جريمة تاريخية بلال ابن رباح 
الخميس سبتمبر 25, 2008 11:27 pm
